الاسير
08-21-2011, 06:15 AM
اللهم صل على محمد وآل محمد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
مفهوم التقوى في نهج البلاغة
إنّ كلمة التقوى من أكثر كلمات نهج البلاغة استعمالاً ، فليس هناك كتاب يركّز فيه على التقوى أكثر من نهج البلاغة ، وليس هناك في نهج البلاغة مفهوم أو معنى اعتنى به أكثر من التقوى ، فما هي التقوى ؟
يفترض الكثيرون أنّ التقوى من الوقاية ، والوقاية تعني الحذر والاحتراز والبعد والاجتناب ، فهي إذن سيرة عملية سلبية ، وكلّما كان الحذر أكثر كانت التقوى أكمل ! وعلى هذا التفسير تكون التقوى :
أوّلاً : أمراً منتزعاً عن السيرة العملية .
وثانياً : هي سيرة عملية سلبية لا إيجابية .
وثالثاً : كلّما كانت سلبيتها أكثر كانت التقوى أكمل .
ولهذا نرى أنّ المتظاهرين بالتقوى يحذرون التدخّل في أي عمل ، ويجتنبون كل رطب وجامد وحار وبارد ، حرصاً على سلامة تقواهم !
ولا شك أنّ الحذر والاجتناب هو من أصول الحياة للإنسان العاقل ، فإنّ الحياة لا تخلو عن مقارنة بين السلب والإيجاب والنفي والإثبات والفعل والترك والإقدام والإحجام .
بل لا يصل الإنسان إلى الإيجاب إلاّ عن طريق السلب ، ولا إلى الإثبات إلاّ بعد النفي ، وليست كلمة التوحيد : لا إله إلاّ الله ، إلاّ كلمة جامعة بين النفي والإثبات ، ولا يمكن إثبات التوحيد إلاّ بعد نفي ما سوى الله تعالى .
ولذلك نرى أنّ الإيمان والكفر مقترنان والطاعة والعصيان ملتزمان ، أي أنّ كل طاعة تتضمّن معصية ، وكل إيمان يشتمل على كفر : ( فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى ) (1) ، ولكن ...
أوّلاً : إنّ البعد والنفي والعصيان والكفر لا تصح إلاّ للعبور إلى أضدادها ، ولا تصح إلاّ أن تكون مقدّمات للارتباط بمقابلاتها ، ولذلك فلابد أن يكون للابتعاد المفيد حدوداً وأهدافاً ، فالسيرة العملية السلبية بلا حدود ولا قيود ولا أهداف ، ليست مقدّسة ولا يحمد عقباها .
وثانياً : إنّ مفهوم التقوى في نهج البلاغة لا يرادف كلمة الحذر ( حسب المفهوم المنطقي للفظة الترادف ) ، فإنّ التقوى في نهج البلاغة : قوّة روحية تتولّد للإنسان من التمرين العملي الذي يحصل من الحذر المعقول من الذنوب .
فالحذر المعقول والمنطقي يكون مقدّمة للحصول على هذه الحالة الروحية ، وهو ـ من ناحية أخرى ـ من لوازم حالة التقوى ونتائجها .
إنّ هذه الحالة تهب للروح قوّة ونشاطاً ، وتصونه من الانحراف والشطط ، ومن لم يحظ بهذه الحالة لابدّ له ـ إذا أراد حفظ نفسه عن المعصية ـ من أن يبعد نفسه عن أسبابها ، وحيث أنّ البيئة الاجتماعية مليئة بأسباب المعاصي فلابد له من أن يختار الانزواء التام !
وعلى هذا فلابد إمّا أن نكون أتقياء ، وحينئذ يجب علينا أن نبتعد عن البيئة الاجتماعية بصورة مطلقة ! أو أن نرد المجتمع فنودّع التقوى إطلاقاً ! وعلى هذا : كلّما كان الشخص أكثر انزواءً وعزلة عن المجتمع كان أكمل في التقوى وأجمع !
أمّا إذا حصلت الروح الإنسانية على ملكة التقوى ، فلا يضطر صاحبها إلى ترك المجتمع والاعتزال .
إذ هو حينئذ يحفظ نفسه من دون أن يخرجها عن المجتمع ، فمن كانت تقواه بالمعنى الأوّل كان كمن يأوي إلى جبل ليعصمه من المرض المعدي ، أمّا من كانت تقواه بالمعنى الصحيح كان كمن يقي نفسه من المرض المعدي بالتلقيح ضدّه ، فلا يضطر إلى أن يخرج من البلد أو يجتنب الناس ، بل يسعى إلى مساعدة المرضى كي ينقذهم ممّا هم فيه من الألم الممضّ .
أمّا نهج البلاغة ، فإنّه يصف التقوى ـ كما وصفناها نحن ـ بأنّها قوّة معنوية روحية ، تحصل على أثر التمرين والممارسة ، ولها آثار ونتائج ، منها تيسير الحذر من الذنوب .
( ذمّتي بما أقول رهينة ، وأنا به زعيم ! إن من صرحت له العبر عما بين يديه من المثلات حجزه التقوى عن التقحم في الشبهات ... ألا وإنّ الخطايا خيل شُمس حمل عليها راكبها وخلعت لجمها ، فتقحمت بهم في النار ... ألا وإنّ التقوى مطايا ذُلُل حمل عليها راكبها وأعطوا أزمتها فأوردتهم الجنّة ... ) .
فقد وصف الإمام ( عليه السلام ) التقوى في خطبته هذه بأنّها : حالة روحية معنوية من آثارها ضبط النفس وامتلاك أزمتها ، وأنّ من لوازم اتباع الهوى وترك التقوى هو انعدام الشخصية وضعف النفس أمام هواها وعند حركة شهواتها ، وأنّ فاقد التقوى حينئذ يكون كراكب ضعيف لا إرادة له في تسيير مركبه ، بل المركب هو الذي يسير حيث يشاء ويهوى ، وأنّ من لوازم التقوى قوّة الإرادة وامتلاك الشخصية المختارة ، كراكب ماهر على فرس مدرّب يسير به في الناحية التي يختارها بكل اقتدار وسلطة ، فيطيعه الفرس بكل يسر .
( إنّ تقوى الله حمت أولياء الله محارمه ، وألزمت قلوبهم مخافته ، حتّى أسهرت لياليهم ، وأظمأت هواجرهم ) ، وفي هذه الكلمة يصرّح الإمام ( عليه السلام ) بأنّ التقوى شيء يكون الحذر من الحرام ، والخوف من الله من لوازمه وآثاره .
وعلى هذا ، فليست التقوى هي نفس الحذر ، ولا نفس الخوف من الله ، بل قوّة مقدّسة روحية توحي بهذه الأمور وتستتبعها ، ( فإنّ التقوى في اليوم الحرز والجنّة ، وفي غد الطريق إلى الجنّة ) .
نرى أنّ الإمام ( عليه السلام ) قد عطف نظره في هذه الكلمات إلى الناحية الروحية والنفسية والمعنوية للتقوى وآثارها في الروح ، بحيث تبعث فيه الإحساس بحب البر والطهر ، والإحساس بالتذمّر من الذنوب والأرجاس والأنجاس .
وهناك نماذج أخرى في هذا الموضوع ، ولعل في هذا القسم كفاية ، ولا ضرورة في ذكر أكثر من هذه النماذج .
إنّ التقوى في نهج البلاغة : قوّة مقدّسة روحية ينشأ منها أنواع من الإقدام والإحجام ، إقدام على القيم المعنوية ، وإحجام عن الدنايا المادّية ، إنّ التقوى في نهج البلاغة : حالة تهب لروح الإنسان قدرة يتسلّط بها على نفسه ويمتلكها .
ولقد أكد الإمام ( عليه السلام ) في خطبه في نهج البلاغة على أنّ التقوى : وقاية لا قيود ، فهناك كثير من الناس لا يفرقون بين ( الوقاية ) و( القيود ) ، ولذلك فهم يفرّون من التقوى باسم التحرّر من القيود والخروج عن الحدود .
ولا شك أنّ الجدار الواقي يشترك مع السجن في أنّهما كليهما مانعان ، ولكن الجدار الواقي يمنع عن الخطر ، في حين أنّ السجن يمنع عن التمتّع بالنعم والمواهب المعدّة للإنسان .
يقول الإمام ( عليه السلام ) : ( اعلموا عباد الله : إنّ التقوى دار حصن عزيز ، والفجور دار حصن ذليل لا يمنع أهله ، ولا يحرز من لجأ إليه ، ألا وبالتقوى تقطع حمة الخطايا ) .
وكأنّه ( عليه السلام ) يشبّه الفجور في كلامه هذا بالحيوان اللاسع كالعقارب والحيات ، ويقول : اقطعوا عن أنفسكم لسعة هذه العقارب بالتقوى ، ويصرّح في بعض كلماته أنّ التقوى ليست قيوداً تمنع عن التحرّر ، بل هي منبع الحرّيات الواقعية وأساسها ومنشؤها .
( فإنّ تقوى الله مفتاح سداد ، وذخيرة معاد ، وعتق من كل ملكة ، ونجاة من كل هلكة ) .
واضح أنّ التقوى تهب للإنسان حرّية معنوية ، تحرّره من أسر عبودية الهوى ، وترفع عن رقبته حبال الحسد والحقد والطمع والشهوة ، وهكذا تحرق عروق العبوديات المادّية ، بين ناس هم عبيد الدنيا والمال والمقام والراحة ، بينما لا يخضع التقي لأعباء هذه العبوديات .
ولقد بحث الإمام ( عليه السلام ) في نهج البلاغة حول آثار التقوى كثيراً ، ولا نرى نحن هنا ضرورة للبحث عن جميعها ، وإنّما نقصد هنا أن يتّضح لنا المفهوم الواقعي للتقوى في مدرسة نهج البلاغة ، ليتبيّن لنا معنى هذا التأكيد على هذه الكلمة في نهج البلاغة .
وإنّ من أهم آثار التقوى الذي أشير إليه في نهج البلاغة أثران خطيران :
أحدهما : البصيرة النيّرة والرؤية الواضحة .
والآخر : القدرة على حل المشاكل والخروج عن المضائق والشدائد .
وقد بحثنا حول آثار التقوى في موضع آخر ، وهي ـ بالإضافة إلى ذلك ـ خارجة عمّا نهدف إليه من هذا البحث هنا ، وهو : بيان المفهوم الواقعي للتقوى ، ولذلك نكتفي هنا من هذا البحث بهذا المقدار .
ولكن بودي أن نتحدّث هنا عمّا يشير إليه نهج البلاغة من أنّ : التقوى تقي الإنسان ، والإنسان يحافظ عليها ، بل يصر نهج البلاغة على أنّ التقوى وثيقة تضمن للإنسان نوعاً من الأمن من الزلل والفتن ، وفي نفس الوقت يلفت نظر الإنسان إلى أنّه أيضاً يجب عليه أن لا يغفل لحظة عن حراسة التقوى وحفاظتها ، فإنّ التقوى وإن كانت واقعية للإنسان ، فمع ذلك يجب على الإنسان أيضاً أن يكون واقياً لها .
وليس هذا من ( الدور المُحال الباطل ) ، بلى هو من نوع المحافظة المتقابلة بين الإنسان والثياب ، إذ الإنسان يحافظ عليها من التمزّق والسرقة ، وهي تحافظ على الإنسان من الحر والبرد والبأس والبؤس ، ولقد عبّر القرآن الكريم أيضاً عن التقوى باللباس فقال : ( وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ) .
وقال الإمام علي ( عليه السلام ) بهذا الصدد : ( أيقظوا بها نومكم ، واقطعوا بها يومكم ، وأشعروها قلوبكم ، وارحضوا بها ذنوبكم .. ألا فصونوها وتصوّنوا بها ... ) .
وقال ( عليه السلام ) : ( أوصيكم عباد الله بتقوى الله ، فإنّها حق الله عليكم ، والموجبة على الله حقّكم ، وأن تستعينوا عليها بالله ، وتستعينوا بها على الله ... ) .
الاسير
</b></i>
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
مفهوم التقوى في نهج البلاغة
إنّ كلمة التقوى من أكثر كلمات نهج البلاغة استعمالاً ، فليس هناك كتاب يركّز فيه على التقوى أكثر من نهج البلاغة ، وليس هناك في نهج البلاغة مفهوم أو معنى اعتنى به أكثر من التقوى ، فما هي التقوى ؟
يفترض الكثيرون أنّ التقوى من الوقاية ، والوقاية تعني الحذر والاحتراز والبعد والاجتناب ، فهي إذن سيرة عملية سلبية ، وكلّما كان الحذر أكثر كانت التقوى أكمل ! وعلى هذا التفسير تكون التقوى :
أوّلاً : أمراً منتزعاً عن السيرة العملية .
وثانياً : هي سيرة عملية سلبية لا إيجابية .
وثالثاً : كلّما كانت سلبيتها أكثر كانت التقوى أكمل .
ولهذا نرى أنّ المتظاهرين بالتقوى يحذرون التدخّل في أي عمل ، ويجتنبون كل رطب وجامد وحار وبارد ، حرصاً على سلامة تقواهم !
ولا شك أنّ الحذر والاجتناب هو من أصول الحياة للإنسان العاقل ، فإنّ الحياة لا تخلو عن مقارنة بين السلب والإيجاب والنفي والإثبات والفعل والترك والإقدام والإحجام .
بل لا يصل الإنسان إلى الإيجاب إلاّ عن طريق السلب ، ولا إلى الإثبات إلاّ بعد النفي ، وليست كلمة التوحيد : لا إله إلاّ الله ، إلاّ كلمة جامعة بين النفي والإثبات ، ولا يمكن إثبات التوحيد إلاّ بعد نفي ما سوى الله تعالى .
ولذلك نرى أنّ الإيمان والكفر مقترنان والطاعة والعصيان ملتزمان ، أي أنّ كل طاعة تتضمّن معصية ، وكل إيمان يشتمل على كفر : ( فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى ) (1) ، ولكن ...
أوّلاً : إنّ البعد والنفي والعصيان والكفر لا تصح إلاّ للعبور إلى أضدادها ، ولا تصح إلاّ أن تكون مقدّمات للارتباط بمقابلاتها ، ولذلك فلابد أن يكون للابتعاد المفيد حدوداً وأهدافاً ، فالسيرة العملية السلبية بلا حدود ولا قيود ولا أهداف ، ليست مقدّسة ولا يحمد عقباها .
وثانياً : إنّ مفهوم التقوى في نهج البلاغة لا يرادف كلمة الحذر ( حسب المفهوم المنطقي للفظة الترادف ) ، فإنّ التقوى في نهج البلاغة : قوّة روحية تتولّد للإنسان من التمرين العملي الذي يحصل من الحذر المعقول من الذنوب .
فالحذر المعقول والمنطقي يكون مقدّمة للحصول على هذه الحالة الروحية ، وهو ـ من ناحية أخرى ـ من لوازم حالة التقوى ونتائجها .
إنّ هذه الحالة تهب للروح قوّة ونشاطاً ، وتصونه من الانحراف والشطط ، ومن لم يحظ بهذه الحالة لابدّ له ـ إذا أراد حفظ نفسه عن المعصية ـ من أن يبعد نفسه عن أسبابها ، وحيث أنّ البيئة الاجتماعية مليئة بأسباب المعاصي فلابد له من أن يختار الانزواء التام !
وعلى هذا فلابد إمّا أن نكون أتقياء ، وحينئذ يجب علينا أن نبتعد عن البيئة الاجتماعية بصورة مطلقة ! أو أن نرد المجتمع فنودّع التقوى إطلاقاً ! وعلى هذا : كلّما كان الشخص أكثر انزواءً وعزلة عن المجتمع كان أكمل في التقوى وأجمع !
أمّا إذا حصلت الروح الإنسانية على ملكة التقوى ، فلا يضطر صاحبها إلى ترك المجتمع والاعتزال .
إذ هو حينئذ يحفظ نفسه من دون أن يخرجها عن المجتمع ، فمن كانت تقواه بالمعنى الأوّل كان كمن يأوي إلى جبل ليعصمه من المرض المعدي ، أمّا من كانت تقواه بالمعنى الصحيح كان كمن يقي نفسه من المرض المعدي بالتلقيح ضدّه ، فلا يضطر إلى أن يخرج من البلد أو يجتنب الناس ، بل يسعى إلى مساعدة المرضى كي ينقذهم ممّا هم فيه من الألم الممضّ .
أمّا نهج البلاغة ، فإنّه يصف التقوى ـ كما وصفناها نحن ـ بأنّها قوّة معنوية روحية ، تحصل على أثر التمرين والممارسة ، ولها آثار ونتائج ، منها تيسير الحذر من الذنوب .
( ذمّتي بما أقول رهينة ، وأنا به زعيم ! إن من صرحت له العبر عما بين يديه من المثلات حجزه التقوى عن التقحم في الشبهات ... ألا وإنّ الخطايا خيل شُمس حمل عليها راكبها وخلعت لجمها ، فتقحمت بهم في النار ... ألا وإنّ التقوى مطايا ذُلُل حمل عليها راكبها وأعطوا أزمتها فأوردتهم الجنّة ... ) .
فقد وصف الإمام ( عليه السلام ) التقوى في خطبته هذه بأنّها : حالة روحية معنوية من آثارها ضبط النفس وامتلاك أزمتها ، وأنّ من لوازم اتباع الهوى وترك التقوى هو انعدام الشخصية وضعف النفس أمام هواها وعند حركة شهواتها ، وأنّ فاقد التقوى حينئذ يكون كراكب ضعيف لا إرادة له في تسيير مركبه ، بل المركب هو الذي يسير حيث يشاء ويهوى ، وأنّ من لوازم التقوى قوّة الإرادة وامتلاك الشخصية المختارة ، كراكب ماهر على فرس مدرّب يسير به في الناحية التي يختارها بكل اقتدار وسلطة ، فيطيعه الفرس بكل يسر .
( إنّ تقوى الله حمت أولياء الله محارمه ، وألزمت قلوبهم مخافته ، حتّى أسهرت لياليهم ، وأظمأت هواجرهم ) ، وفي هذه الكلمة يصرّح الإمام ( عليه السلام ) بأنّ التقوى شيء يكون الحذر من الحرام ، والخوف من الله من لوازمه وآثاره .
وعلى هذا ، فليست التقوى هي نفس الحذر ، ولا نفس الخوف من الله ، بل قوّة مقدّسة روحية توحي بهذه الأمور وتستتبعها ، ( فإنّ التقوى في اليوم الحرز والجنّة ، وفي غد الطريق إلى الجنّة ) .
نرى أنّ الإمام ( عليه السلام ) قد عطف نظره في هذه الكلمات إلى الناحية الروحية والنفسية والمعنوية للتقوى وآثارها في الروح ، بحيث تبعث فيه الإحساس بحب البر والطهر ، والإحساس بالتذمّر من الذنوب والأرجاس والأنجاس .
وهناك نماذج أخرى في هذا الموضوع ، ولعل في هذا القسم كفاية ، ولا ضرورة في ذكر أكثر من هذه النماذج .
إنّ التقوى في نهج البلاغة : قوّة مقدّسة روحية ينشأ منها أنواع من الإقدام والإحجام ، إقدام على القيم المعنوية ، وإحجام عن الدنايا المادّية ، إنّ التقوى في نهج البلاغة : حالة تهب لروح الإنسان قدرة يتسلّط بها على نفسه ويمتلكها .
ولقد أكد الإمام ( عليه السلام ) في خطبه في نهج البلاغة على أنّ التقوى : وقاية لا قيود ، فهناك كثير من الناس لا يفرقون بين ( الوقاية ) و( القيود ) ، ولذلك فهم يفرّون من التقوى باسم التحرّر من القيود والخروج عن الحدود .
ولا شك أنّ الجدار الواقي يشترك مع السجن في أنّهما كليهما مانعان ، ولكن الجدار الواقي يمنع عن الخطر ، في حين أنّ السجن يمنع عن التمتّع بالنعم والمواهب المعدّة للإنسان .
يقول الإمام ( عليه السلام ) : ( اعلموا عباد الله : إنّ التقوى دار حصن عزيز ، والفجور دار حصن ذليل لا يمنع أهله ، ولا يحرز من لجأ إليه ، ألا وبالتقوى تقطع حمة الخطايا ) .
وكأنّه ( عليه السلام ) يشبّه الفجور في كلامه هذا بالحيوان اللاسع كالعقارب والحيات ، ويقول : اقطعوا عن أنفسكم لسعة هذه العقارب بالتقوى ، ويصرّح في بعض كلماته أنّ التقوى ليست قيوداً تمنع عن التحرّر ، بل هي منبع الحرّيات الواقعية وأساسها ومنشؤها .
( فإنّ تقوى الله مفتاح سداد ، وذخيرة معاد ، وعتق من كل ملكة ، ونجاة من كل هلكة ) .
واضح أنّ التقوى تهب للإنسان حرّية معنوية ، تحرّره من أسر عبودية الهوى ، وترفع عن رقبته حبال الحسد والحقد والطمع والشهوة ، وهكذا تحرق عروق العبوديات المادّية ، بين ناس هم عبيد الدنيا والمال والمقام والراحة ، بينما لا يخضع التقي لأعباء هذه العبوديات .
ولقد بحث الإمام ( عليه السلام ) في نهج البلاغة حول آثار التقوى كثيراً ، ولا نرى نحن هنا ضرورة للبحث عن جميعها ، وإنّما نقصد هنا أن يتّضح لنا المفهوم الواقعي للتقوى في مدرسة نهج البلاغة ، ليتبيّن لنا معنى هذا التأكيد على هذه الكلمة في نهج البلاغة .
وإنّ من أهم آثار التقوى الذي أشير إليه في نهج البلاغة أثران خطيران :
أحدهما : البصيرة النيّرة والرؤية الواضحة .
والآخر : القدرة على حل المشاكل والخروج عن المضائق والشدائد .
وقد بحثنا حول آثار التقوى في موضع آخر ، وهي ـ بالإضافة إلى ذلك ـ خارجة عمّا نهدف إليه من هذا البحث هنا ، وهو : بيان المفهوم الواقعي للتقوى ، ولذلك نكتفي هنا من هذا البحث بهذا المقدار .
ولكن بودي أن نتحدّث هنا عمّا يشير إليه نهج البلاغة من أنّ : التقوى تقي الإنسان ، والإنسان يحافظ عليها ، بل يصر نهج البلاغة على أنّ التقوى وثيقة تضمن للإنسان نوعاً من الأمن من الزلل والفتن ، وفي نفس الوقت يلفت نظر الإنسان إلى أنّه أيضاً يجب عليه أن لا يغفل لحظة عن حراسة التقوى وحفاظتها ، فإنّ التقوى وإن كانت واقعية للإنسان ، فمع ذلك يجب على الإنسان أيضاً أن يكون واقياً لها .
وليس هذا من ( الدور المُحال الباطل ) ، بلى هو من نوع المحافظة المتقابلة بين الإنسان والثياب ، إذ الإنسان يحافظ عليها من التمزّق والسرقة ، وهي تحافظ على الإنسان من الحر والبرد والبأس والبؤس ، ولقد عبّر القرآن الكريم أيضاً عن التقوى باللباس فقال : ( وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ) .
وقال الإمام علي ( عليه السلام ) بهذا الصدد : ( أيقظوا بها نومكم ، واقطعوا بها يومكم ، وأشعروها قلوبكم ، وارحضوا بها ذنوبكم .. ألا فصونوها وتصوّنوا بها ... ) .
وقال ( عليه السلام ) : ( أوصيكم عباد الله بتقوى الله ، فإنّها حق الله عليكم ، والموجبة على الله حقّكم ، وأن تستعينوا عليها بالله ، وتستعينوا بها على الله ... ) .
الاسير
</b></i>